التكرار
الأسلوب البلاغي
الغاية من التحذيرات
نبذ التعاليم المحلية
يبقوا أمناء ليسوع
الخاتمة
التكرار
الأسلوب البلاغي
الغاية من التحذيرات
نبذ التعاليم المحلية
يبقوا أمناء ليسوع
الخاتمة
التكرار
يساعدنا تكرار تحذيرات الكاتب على فهم الحاجة الملحة لهذه الرسالة. وردت هذه التحذيرات بطريقة ضمنيّة أحياناً، إلّا أنّها تظهر بشكلٍ واضح 30 مرّة على الأقلّ. ويستخدم الكاتب في مناسباتٍ عدّة ما يسمّيه علماء النحو اليونانيون بصيغة “التمني التشجيعية” “subjunctive” وصيغ الأفعال هذه تدعو إلى الحثّ أو المناشدة وهي غالباً ما تترجم إلى “لنفعل” هذا أو ذاك. على سبيل المثال، في 4: 14 و16 نقرأ تحذيرَيْن من هذا النوع:
فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ… فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ (العبرانيين 4: 14، 16).
يحذّر الكاتب قرّاءه أيضاً باستخدام صيغة الأمر التي غالباً ما نترجمها على شكل أمرٍ مباشر. على سبيل المثال، في 12: 12–16 نقرأ هذه التحذيرات المتتالية:
لذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ، وَاصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً … اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ … مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ … لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِياً أَوْ مُسْتَبِيحاً كَعِيسُو (العبرانيين 12: 12–16).
إن أحدَ الأسبابِ وراءَ أهميةِ التَنَبُهِ إلى تَحذيراتِ الكاتِبِ المباشرة إلى قرائه، هو أن التأملات اللاهوتية المُعَقَّدة في الرسالة غالباً ما تحجب قصد الكاتب من كتابته. فهو لم يرد فقط إبلاغ القرّاء تعليماً لاهوتيّاً. بل هو أراد من خلال التعليم إقناعهم بتبنّي مواقف والقيام بأعمال متنوعة. وهذا ما عناه بتسمية رسالته “كلمة الوعظ”. ونحن إن لم نبقِ هذه الحاجة الملحة في أذهاننا فسوف تفوتنا ناحية مهمّة من الرسالة إلى العبرانيين.
لقد رأينا كيف أنّ حدّة تحذيرات الكاتب قد انعكست من خلال تكرار تحذيراته إلى قرّائه. والآن لندرس كيف أظهر الكاتب رغبته في تحذير قرّائه من خلال الأسلوب البلاغي الذي استخدمه في كتابته.
الأسلوب البلاغي
لطالما تميّزت الرسالة إلى العبرانيين بمستوى عالٍ من الأسلوب البلاغي. ونعني بهذا أنّها تستخدم العديد من الصور البلاغيّة التي اقترنت بالخطابات المقنعة أو النقاشات الملحّة في القرن الأوّل. ويظهر العديد من هذه الصور البلاغية من حينٍ إلى آخر في كتبٍ أخرى من العهد الجديد، إلّا أنّها الأكثر تكراراً في العبرانيين.
إنّ الرسالة إلى العبرانيين أفضل مثل لكاتب يتمتّع بمهارات بلاغيّة هامة. وقد ساعده ذلك في تحقيق الهدف الذي أراده. فهو يحاول أن يبرهن سمو المسيح والعهد الجديد على العهد القديم، وهو يقوم بذلك مستعيناً جزئًيا بحجج يصوغها بأسلوب أدبي شديد الإقناع. كما يعمد إلى استخدام العديد من الصيغ المختلفة في تركيب الجمل. فنرى نصّه مصاغاً بأسلوب مثير وبصور بلاغية يجذب بها القارئ كي يقنعه. [الدكتور مارك إل. ستراوس]
إحدى هذه الصور البلاغية، وتُسمى سينكريزِس synkrisis باليونانية، هي مقارنة مفصّلة بين أمرَين أو أكثر غايتها إقناع القرّاء بوجهة نظر المتكلّم. على سبيل المثال، تظهر السينكريزِس في الرسالة إلى العبرانيين في 7: 11–28. في هذا المقطع، يناقش الكاتب مسألة يسوع الكاهن- الملك على مثال مَلْكِي صَادَقَ وهذا الأخير هو كاهن وملك يرد ذكره في كتاب التكوين. إلّا أنّ الكاتب لم يكتفِ فقط بالدفاع عن فكرته بل قدّم لقرّائه مقارنة مقنعة بين مَلْكِي صَادَقَ والمسيح تشتمل على ثماني نقاطٍ: الأصل، سلالة النسب، الولادة، الموت، المنصب، الأعمال، المنزلة والإنجازات. وكان يهدف بهذه المقارنات المفصّلة إلى إزالة كلّ الأفكار التي تشكّك بأن يسوع هو رئيس الكهنة الملكي العظيم.
نوعٌ آخر من الصور البلاغية التي نراها في الرسالة إلى العبرانيين يُعرف بإكزامبلا Exempla. والإكزامبلا هي إيضاحات أو أمثلة متتالية تهدف إلى إقناع الآخر بوجهة نظر معيّنة من خلال تقديم حجة مقنعة حول رأي محدّد. ويظهر هذا الأسلوب الخطابي في لائحة المؤمنين المألوفة في العبرانيين 11. حيث ذكر الكاتب بالأسماء كلّاً من: هابيل، أخنوخ، نوح، إبراهيم، سارَة، إسحاق، يَعقوب، يوسُف، موسى، بني إسرائيل، راحاب، جِدْعُون، باراق، شَمشُون، يفْتاح، داوُد، صموئيل والأنبياء. وكانت الغاية من هذه اللائحة الطويلة إقناع القرّاء بأنه ينبغي على خدّام الله أن يثبتوا في إيمانهم وأمانتهم في أوقات الاضطهاد.
نوع ثالثٌ من الصور البلاغية التي استخدمها كاتب العبرانيين يُعرف بالتعبير العبريّ قول واهومير. هذا التعبير معروفٌ جدّاً في التقليدَين اليوناني – الروماني والرابيني، ويمكن أن يترجم من “الخفيف إلى الثقيل”، أو “من الأصغر إلى الأعظم”، أو “من البسيط إلى المعقّد”. وهذا النوع من الجدل يبدأ بمقدّمة منطقيّة بسيطة لا يختلف حولها القرّاء. ثمّ تتّجه نحو خلاصة أكثر تعقيداً كانت محور شكٍّ لدى القرّاء في البداية، إلّا أنّهم الآن باتوا أكثر قبولاً حيالها. وبطرح مثل هذا البرهان يمكننا أن نبيّن أنّه بما أنّ المقدّمة البسيطة هي صحيحة، إذاً لا بدّ للخلاصة الأصعب من أن تكون صحيحة أيضاً. استمع إلى الطريقة التي تظهر فيها هذه الصورة البلاغيّة في العبرانيين 10: 28 و29:
مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ؟ (عبرانيين 10: 28–29)
هنا يبدأ الكاتب بمقدّمة منطقيّة متفق عليها لدى القارئ: إنّ مخالفة ناموس موسى عاقبتها الموت. ثمّ ذهب بالقرّاء أبعد من ذلك حين ناقش كم عقاباً أشدّ يستحقّ الذين داسوا من هو أعظم من موسى– ابن الله.
تساعدنا هذه الأمثلة على فهم أهداف الكاتب الملحّة. لقد كان مقتنعاً بأنّ مستلمي رسالته يواجهون ظروفاً خطيرة جدّاً وأنّه حان الوقت لكي يتّخذوا بعض القرارات الصعبة. فعَمل كلّ ما بوسعه ليحثّهم على اتخاذ الخيارات الصائبة ويقنعهم بها.
والآن، بعد أن رأينا كيف عزّزت حدّة التحذيرات قصد الكاتب، علينا أن ننتقل إلى خاصّيّة ثانية للرسالة، هي: الغاية من هذه التحذيرات.
الغاية من التحذيرات
رأينا سابقاً أنّ القصد الرئيسي من الرسالة إلى العبرانيين يمكن تعريفه بالطريقة التالية:
كان هدف كاتب العبرانيين أن يحض مستلمي رسالته على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وعلى بقائهم أمناء ليسوع.
كما يؤكّد هذا التعريف، كان لـتحذيرات الكاتب غاية مضاعفة. إذ كان يرغب في أن ينبذ مستلمو رسالته التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وكان يريد منهم أيضاً أن يبقوا أمناء ليسوع باعتباره المسيح المنتظر. لندرس كيف حثّ الكاتب مستلمي الرسالة على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة.
نبذ التعاليم المحليّة
سبق وأشرنا أنّ قرّاء العبرانيين قد عانوا الاضطهاد مما جعلهم عرضة للارتداد. إلّا أنّ تجربتهم هذه ليست كما قد نتصوّر في البداية. إذ يبدو أنّه في الوقت الذي كتبت فيه الرسالة إلى العبرانيين كان يمكن للمسيحيّين أن يكونوا بمأمن من الاضطهاد في حال تخلّوا عن معتقداتهم المسيحيّة التي تميّزهم، وانخرطوا أكثر في المجتمع اليهودي المحلّي.
كان يترتّب على اليهود في القرن الأوّل، أن يدفعوا ضرائب غير اعتيادية، وكانوا يعانون من وقت لآخر من الاضطهاد. لكن في أغلب الأحيان كانت الجماعات اليهوديّة في الإمبراطورية الرومانيّة تمارس إيمانها بحرّيّة. وهذا كان حال المسيحيّيّن في البداية، لأنّ الرومان كانوا ينظرون إلى المسيحية كجزء من اليهودية. لكن مع مرور الوقت، لم تعد المسيحيّة تُعتبر إحدى الطوائف اليهوديّة. في الواقع، يروي كتاب أعمال الرسل أنّه حتّى في أيّام بولس، كان أتباع المسيح يُقصون من مجامع اليهود، وكان رؤساؤهم يحرّضون السلطات المحليّة على إساءة معاملتهم. فهناك احتمال قويّ أن يكون مستلمو العبرانيين قد واجهوا هذا النوع من الظروف. ومعاناتهم التي طالت دفعتهم إلى قبول تعاليم كانت شائعة في مجتمعهم اليهودي المحلّي، تتعارض وإيمانهم المسيحي.
واللافت للنظر أنّ كاتب العبرانيين لم يتطرّق إلى مسائل ارتبطت عادةً برياء اليهود وتقيّدهم بحرفية الشريعة. فمهما بلغت خطورتها لم تكن هذه الأمور بالنسبة إلى كاتب العبرانيين همّه الأوّل. بل أعطى الأولويّة لحلّ مسألة المعتقدات والممارسات الخاطئة، خصوصاً تلك التي نشأت في المجتمعات اليهوديّة خارج الاتجاه اليهودي السائد في فلسطين. استمع إلى كلمات الكاتب في العبرانيين 13: 9:
لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ، لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا (العبرانيين 13: 9).
في هذا العدد، يقابل الكاتب بين “الثبات بفضل النعمة” و”الثبات بفضل الأطعمة”. والتركيز على هذه النقطة بالأخصّ لا يبدو أمراً غريباً. لكن لاحظ أيضاً أنّ ذلك ليس سوى أحد الأمثلة عمّا سمّاه الكاتب بـ”التعاليم المتنوعة والغريبة”. وهي بكلمات أخرى، التعاليم الغريبة وغير المعهودة التي تلقّنوها من المجتمعات اليهوديّة المحلّيّة. فما كانت هذه “التعاليم الغريبة” التي كان القرّاء عرضة لاتِّباعها؟
في النصف الثاني من القرن الماضي، ظهر عدد من الأفكار المفيدة في الإجابة عن السؤال أعلاه مع اكتشاف مخطوطات البحر الميت في قمران. وقد احتوت مجموعة الوثائق المكتشفة هناك والتي بقيت مخبأة لمدّة طويلة، على نصوص العهد القديم. وتضمّنت هذه الوثائق أيضاً كتابات من خارج الأسفار المقدسة بشأن التعاليم الخاصّة لجماعة من اليهود المحرومين من حقوقهم كانوا يعيشون بالقرب من البحر الميّت. وقد تضمّنت كتباً مثل نظام الجماعة، وعهد دمشق، ولفيفة الحرب، والمدراش حول ملكي صادق، بالإضافة إلى جزئين من 1 أخنوخ معروفَين بكتاب الساهرين وكتاب الأحلام. في هذه الكتب عدد من التعاليم الشبيهة إلى حدٍّ كبير بالقضايا اللاهوتية المطروحة في العبرانيين.
والجدير بالذكر هو أنّ هذه التعاليم لم تكن محصورة في هذه الجماعة. فهناك مجموعات أخرى من اليهود كانت لها تعاليم مماثلة تعيش في نواحي حوض البحر المتوسّط. في الواقع، كانت رسالتا أفسس وكولوسي تعالجان قضايا مماثلة في مناطقهما. يمكننا فهم العديد من التحذيرات الموجودة في العبرانيين ضد المعتقدات اليهوديّة المحلّيّة، إن نحن انتبهنا إلى بعض المواضيع المشابهة الموجودة في الرسالة إلى العبرانيين والمخطوطات التي عُثر عليها في قمران.
إنّ مخطوطات البحر الميّت هي وثائق مدهشة عُثر عليها كما هو معروف في خربة قمران، وهي مخطوطات تعود إلى طائفة يهوديّة متطرّفة عزلت نفسها عن الاتجاه اليهودي العام لا سيما خدمات الهيكل. وعلى نحو مشابه إلى حد ما للرسالة إلى العبرانيين، يبدو أن المتشدّدين في جماعة قمران اعتبروا أنفسهم هيكلاً جديداً في ظلّ عهدٍ جديد. لكن إلى جانب أوجه الشبه نرى كذلك أوجه اختلاف لا سيما بسبب غلبة العبادة الطقسيّة في شعائر العهد القديم، وقد كانت جماعة قمران ترغب في إعادة إحيائها في الوقت الذي يبدو أن كاتب العبرانيين كان يطلب من قرائه التخلي عنها. [الدكتور شون ماكدونو]
سنكتفي في هذا الدرس بالإشارة بشكلٍ موجز إلى أربعة مواضيع يرد ذكرها في الرسالة إلى العبرانيين وفي الوثائق التي وُجدت في قمران.
الأطعمة الطقسية. في المقام الأول، سبق وذكرنا أنّه في العبرانيين 13: 9، اعترض الكاتب على مسألة محدّدة من تناول الأطعمة الطقسية.
ونجد في الكتاب المُعنون نظام الجماعة، وصفاً للعديد من الممارسات في قمران. وكانت جماعة قمران، بالإضافة إلى ممارسات عديدة أخرى، تقيم بانتظام ولائم مقدّسة جماعيّة يجري خلالها خاصة تناول أطعمة مكرّسة.
التعاليم الأساسية. ثانياً، نجد في الرسالة إلى العبرانيين مجموعة من التعاليم الأساسية التي تظهر أيضاً في كتابات قمران.
على سبيل المثال، في العبرانيين 6: 1–2، يشير الكاتب إلى التوبة، والإيمان، وشعائر التطهير (أو المعموديّات)، ووضع الأيادي، وقيامة الأموات والدينونة الأبديّة. واللافت للنظر هو كون نظام الجماعة ولفيفة الحرب في قمران يسلّطان الضوء على هذه المسائل ومسائل مشابهة لم يعهدها الاتجاه اليهودي العام في فلسطين.
الملائكة. ثالثاً، تساعدنا كتابات قمران على فهم سبب تركيز الرسالة إلى العبرانيين على موضوع الملائكة. تناولت الرسالة إلى العبرانيين في عدد من المقاطع ذكر معتقدات حول الملائكة. وجاء هذا التركيز ردّاً على معتقدات من النوع الذي يشبه التعاليم في كتب مثل نظام الجماعة، وعهد دمشق، ولفيفة الحرب، بالإضافة إلى جزأين من 1 أخنوخ يُسميان كتاب “الساهرين” و”كتاب الأحلام”. هذه الكتب أشادت بقوى الملائكة الأخيار والأشرار، ودورهم كرسل للرؤى الإلهيّة، وتأثيرهم على الكائنات البشريّة الأدنى منها رتبة. فيبدو أنّ قرّاء العبرانيين الأوّلين افتتنوا بهذا النوع من التعاليم.
مَلْكِي صَادَق. رابعاً، تساعدنا الوثائق التي وجدت في قمران على فهم اهتمام كاتب العبرانيين غير الاعتيادي بشخصيّة مَلْكِي صَادَق المذكورة في العهد القديم.
وجد المفسّرون، لفترة زمنيّة تعدّ الأطول، صعوبة في شرح لماذا كانت المقارنات بين مَلْكِي صَادَق ويسوع في غاية الأهمية بالنسبة إلى كاتب العبرانيين. إلّا أنّ أحد النصوص الذي وجد في قمران، ويُدعى عامة المصدر 11Q مَلْكِي صَادَق أو المدراش حول مَلْكِي صَادَق قد أتى بتعليمٍ خاطئ عن كون مَلْكِي صَادَق شخصيّة سماويّة سوف تظهر في الأيام الأخيرة لتعلن يوم الكفّارة وتمنح شعب الله الكفارة النهائية عن خطاياه. وكلّ الأمور كانت توحي بأنّ القرّاء الأولّين للعبرانيين كانوا في خطر التمسّك بهذه المعتقدات الخاطئة.
إنّ تحديد أنواع التعاليم الخاطئة التي كانت منتشرة في المجتمعات اليهوديّة يساعدنا على فهم لماذا كان كاتب العبرانيين يحثّ قرّاءه على مقاومة هذه التعاليم وعلى البقاء أمناء ليسوع.
هناك أوجه شبه مثيرة للاهتمام بين تعليم مخطوطات قمران وتعليم العبرانيين. ولربّما أهمّها هي أنّ الجماعتَين أدركتا أو اعتقدتا أنّهما في الأزمنة الأخيرة، وأنّ خلاص الله النهائي آتٍ عن قريب. الفرق بالطبع، هو أن الرسالة إلى العبرانيين تؤكد أنّ خلاص الله قد أتى فعلاً، بينما أهل قمران- أو في مخطوطات البحر الميّت- كانوا لا يزالون يتوقّعون مجيئه في أيّ وقت. لكنّ المقارنة الأهمّ ربّما بين الجماعتَين هي دور شخصيّة مَلْكِي صَادَق. يطور الكاتب، في الرسالة إلى العبرانيين، هذا التعليم اللاهوتي حول مَلْكِي صَادَق ليدعم أن يسوع هو رئيس كهنة. ورتبته ليست على رتبة هارون، رئيس الكهنة التقليدي في العهد القديم، بل على رتبة مَلْكِي صَادَق. وقد انطلق من أنّ مَلْكِي صَادَقَ الذي التقى إبراهيم في كتاب التكوين كان رئيس كهنة شرعياً. بين مخطوطات البحر الميت توجد واحدة تُعرف بالمصدر 11 مَلْكِي صَادَق، لأنّه تمّ العثور عليها في المغارة 11 لمخطوطات البحر الميّت، وهذه المخطوطة تصوّر مَلْكِي صَادَقَ على أنّه شخصية سماوية قديرة ومجيدة شبيهة بالمسيح المنتظر الآتي بالخلاص. لا شك أن المقارنة مثيرة للاهتمام بما أنّ مَلْكِي صَادَقَ هو مثال للمسيح في العبرانيين، وها هو في مخطوطات البحر الميّت يصبح شخصيّة مسيحانيّة. وهذه العلاقة بين مَلْكِي صَادَقَ في العبرانيين وفي المخطوطات تحيّر الباحثين. [الدكتور مارك إل. ستراوس]
لم تكن الغاية من تحذيرات الكاتب لقرّائه حثّهم على نبذ التعاليم اليهودية المحلية فقط، بل أكثر من ذلك، أراد الكاتب أن يبقوا أمناء ليسوع كونه المسيح المنتظر.
يبقوا أمناء ليسوع
من أجل تحقيق الغاية المرجوّة من دعوة قرّائه إلى خدمة يسوع بأمانة، وضع كاتب العبرانيين تحذيراته في خمسة أقسام رئيسية. في درسنا التالي سننظر في كل قسم من هذه الأقسام مع بعض التفصيل. لكن في هذه المرحلة سنلخّص القضايا الرئيسية في كل قسم.
في العبرانيين 1: 1-2: 18، توجّه كاتب العبرانيين إلى قرّائه ليؤكّد تفوّق المسيح على الإعلانات الملائكيّة.
لقد ذكرنا سابقاً في هذا الدرس أنّ كاتب العبرانيين يندد بالمعتقدات الخاطئة حول الملائكة. فهناك العديد من الكتابات اليهوديّة التي عادةً تمجّد الملائكة باعتبارها مخلوقات قديرة ومجيدة نقلت إعلانات إلهيّة إلى البشر الأدنى منها منزلة. وهذا الإكرام المُعطى للملائكة ولّد تحدّيّاً خطيراً بالنسبة لأتباع المسيح. فيسوع كان من لحم ودم. فكيف لأي شخص أن يتبع ما علّمه يسوع عوضاً عن اتّباع ما أعلنته الملائكة؟ لكنّ كاتب العبرانيين ردّ على هذا التعليم اليهودي المحلّي ببراهين من العهد القديم ومن حياة يسوع، وموته، وقيامته، وصعوده وعودته في المجد، كلها تثبت أنّه في الواقع أعظم كثيراً من الملائكة.
إنّ القسم الرئيسي الثاني من العبرانيين، الممتدّ من 3: 1-4: 13، يبرهن أنّ يسوع أهلٌ لسلطة تفوق سلطة موسى.
كان واضحاً للجميع أنّ أتباع يسوع ما كانوا يمارسون خدمة الذبائح التي أوصى الله بها من خلال موسى. وقد ناشدت الجماعة اليهوديّة المحلّية المسيحيّين أن يعودوا إلى موسى ويعملوا بما أوصى به. وقد ردّ كاتب العبرانيين على هذه المسألة بتأكيده أنّ موسى كان خادم الله الأمين. لكنّ يسوع كان أعظم من موسى فهو ابن الله الملك (الجالس على عرشه).
بعد أن تناول الكاتب مسألة الملائكة وموسى، تحوّل إلى الكلام عن كهنوت مَلْكِي صَادَق في 4: 14-7: 28.
في هذا القسم، ناقش الكاتب مسألة كون يسوع الكاهن والملك الأعظم مُعيّناً على رتبة مَلْكِي صَادَق. ويبدو جليّاً أنّ المجتمع اليهودي المحلّي أراد أن يتخلّى مستلمو الرسالة الأولون عن اعتقادهم بيسوع كالمسيح المنتظر لأنّه كان يعتقد بظهور مَلْكِي صَادَق كرئيس الكهنة الملكي في الأيام الأخيرة. لكنّ كاتب العبرانيين ردّ على هذا التحدّي مبرهناً أنّ يسوع هو الملك الكاهن الحقيقي الذي ظهر في الأيام الأخيرة ليمنحنا تكفيراً أبديّاً عن الخطيّة.
في 8: 1-11: 40، شرح كاتب العبرانيين تفوّق العهد الجديد بيسوع.
أثارت التعاليم اليهوديّة المحليّة شكوكاً حول الادعاء المسيحي بأن يسوع قد أتى ليكون وسيط العهد الجديد الذي وعد به إرميا. إلّا أنّ كاتب العبرانيين أشار إلى أنّ يسوع هو في الحقيقة وسيط العهد الجديد.
في القسم الرئيسي الأخير، الممتدّ من 12: 1-13: 25، تكلّم كاتب العبرانيين بطرق عديدة عن حاجة قرائه إلى ممارسة الثبات العملي.
ويتكون هذا القسم من لائحة طويلة من التحذيرات، وعلى شروحات لها. في ضوء التحدّيّات العديدة الآتية من المجتمع اليهودي المحلّي، أو أيّ مصدر آخر، والتي تقف بوجه إيمانهم، وجّه الكاتب رسالته ليبعث الأمل والقوّة في نفوس قرّائه. كما حضهم على البقاء أمناء ليسوع كالمسيح المنتظر مذكّراً إيّاهم بمواعيد الله وبركاته في يسوع.
يحاول كاتب العبرانيين أن يضع تحذيراته العديدة في خانة الحض الإيجابي، فهو يحض قرّاءه على المثابرة والثبات. ونلاحظ أنّه يعتمد أحياناً لغة لطيفة، فيستعطف ويشجّع، لكنّه أحياناً أخرى يتكلّم بلغة فيها شيءٌ من التهويل. ونجد أسلوب التهويل هذا بدءً من الفصل 2 للرسالة – “لأنّه إن كان قدّيسو العهد القديم قد سقطوا، فكم سيكون عقابنا أشدّ، إن أهملنا نحن، ورثة العهد الجديد، الذين يعرفون الرب يسوع، الخلاص العظيم الذي مُنح لنا”. وهذا النوع من الحجج المبني على استنتاج مسبَّق، “إن حصل هذا، فكم بالحري إن حصل ذاك”، يتكرّر مراراً في الرسالة. ثمّ نأتي إلى الفصلَين 6 و10 في العبرانيين، اللذَين وغالباً ما يُشار إليهما “بمقاطع الارتداد”، وفيهما تحذير من خطر أولئك الذين يعترفون بإيمانهم العميق بالمسيح – وهم على ما يبدو تبعوه في وقت ما- ثمّ تركوا إيمانهم الأول وسقطوا. وهكذا حتى عندما نقرأ القصة في العهد القديم، كما وردت في نهاية الفصل 3 من العبرانيين، نرى الكاتب يقول: لا تحذوا حذو قديسي العهد القديم الذين أُخرجوا من مصر وأُعتقوا من العبودية لكنّهم لم يدخلوا أرض الموعد لأنّهم لم يثبتوا. وهذا النوع من التشابيه الرعوية يتبيّن لنا أنّ دافع الكاتب وراء التشجيع لم يكن ناعماً أو ساذجاً، بل كان فيه حماسة وتشجيع وتمسّك بأمجاد المسيح لندنو منه. وكان في كلامه أيضاً تحذيرٌ وإنذارٌ بجدّيّة الموضوع التي لا يجوز التهاون بها. [الدكتور دي. إى. كارسون]
الخاتمة
في هذا الدرس حول خلفية الرسالة إلى العبرانيين والقصد منها، نظرنا إلى خلفية الرسالة إلى العبرانيين، أي إلى الكاتب ومستلمي الرسالة وتاريخ الكتابة. كما ركّزنا على القصد الأولي للرسالة من خلال بحثنا كيف كتب الكاتب رسالته ليحضّ مستلمي رسالته على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وإعادة تأكيد أمانتهم ليسوع كالمسيح المنتظر.
إنّ الرسالة إلى العبرانيين هي واحدة من أكثر أسفار العهد الجديد التي تبدو صعبة في تعاليمها، مع أنها للذي يدرسها بعناية في غاية البساطة والجمال الذي يغير الحياة. وتنطوي على عدد كبير من التعاليم بحيث لا يمكننا في هذه العجالة سوى تناول قسم صغير ممّا تعلّمه هذه الرسالة. لكن لا يزال بوسعنا الاستفادة بطرق كثيرة من تعاليمها الغنيّة. ونحن كأتباع للمسيح في هذا العصر، نواجه أيضاً تجربة الابتعاد عن مشاكل هذه الحياة عن طريق المساومة على التزاماتنا تجاه المسيح. لكن لو فتحنا قلوبنا وأصغينا كيف حذّر كاتب العبرانيين قرّاءه الأولين بإلحاح عندها يمكننا أن ندرك كم هو مهمّ أن نثبت في إيماننا مهما كانت المقاومة التي قد نواجهها.
د. عماد شحادة (المُقدم) هو مؤسس ورئيس مؤسسة الدراسات اللاهوتيّة الأردنيّة، وأستاذ أول لعلم اللاهوت بها.
د. دونالد كارسون، هو أستاذ باحث في العهد الجديد بكليّة ترينتي الإنجيليّة للاهوت، والمؤسس المشارك لائتلاف الإنجيل.
د. دينيس جونسون هو العميد الأكاديمي وأستاذ اللاهوت العملي في كلية وستمنستر للاهوت بكاليفورنيا.
د. كريج كينر هو رئيس قسم الدراسات الكتابيّة بكلية آزبوري للاهوت.
د. فريدريك لونج هو أستاذ العهد الجديد بكليّة أزبوري للاهوت.
د. شون ماكدونو هو أستاذ العهد الجديد بكلية جوردن كونويل للاهوت.
د. إيكهارد شنابل هو الأستاذ المميز لدراسات العهد الجديد في كلية جرودن كونويل للاهوت.
د. مارك ستراوس هو أستاذ العهد الجديد في كلية بيت إيل للاهوت في سان دياجو.
د. ستيفين وايتمر هو أستاذ مساعد للعهد الجديد في كليّة جوردن كونويل للاهوت، والراعي الرئيسي لكنيسة الشركة في بيبريل بولاية ماساتشوستس.
القسم الثاني: القصد
مخطط لتدوين الملاحظات
2. القصد
أ. حدة التحذيرات
1. التكرار
2. الأسلوب البلاغي
ب. الغاية من التحذيرات
1. نبذ التعاليم المحليّة
2. يبقوا أمناء ليسوع
الخاتمة
أسئلة المراجعة
1. بحسب الدرس، ما كان قصد الكاتب من كتابة العبرانيين؟
2. عندما يسمي كاتب رسالة العبرانيين سفره “كلمة الوعظ” (العبرانيين 13: 22)، كان هذا في الغالب مصطلح متداول في القرن الأوّل، إلى ماذا يشير بتعبيرات معاصرة؟
3. ما صيغة الفعل اليوناني المستخدمة للحض في رسالة العبرانيين؟
4. ما معنى الفعل اليوناني باراكاليو؟ (المختص “بالحض” كما هو مستخدم في رسالة العبرانيين)؟
5. ما المصطلح المستخدم لوصف الأسلوب البلاغي في رسالة العبرانيين؟ وما معناه؟
6. حدد معنى ” سينكريزِس synkrisis”، و” إكزامبلا Exempla”، و” قول واهومير”.
7. صف مقدار الحرية الدينية التي كانت للمسيحي في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الأول. كيف أثر هذا على المسيحيين في ذلك الوقت؟
8. ما هي “مخطوطات البحر الميت”؟
9. اذكر الموضوعات التي تم التعامل معها في مخطوطات البحر الميت والتي يتم مخاطبتها في رسالة العبرانيين أيضًا.
10. ما الذي تُعلمه الوثيقة التي وجدت في قمران، والتي تحمل اسم 11″ق ملكي صادق” أو “المدراش حول ملكي صادق” عن ملكي صادق؟
11. من كان ملكي صادق في العهد القديم؟
12. لخص الحجة الأساسية لكاتب العبرانيين والتي تشجع الناس على البقاء أمناء ليسوع.
أسئلة التطبيق
1. هل هناك أي تعاليم تشوش عليك أحيانًا فهمك عن يسوع والإنجيل، وتغويك على هجر الإيمان المسيحي؟ اشرح.
2. ما هي بعض تعاليم رسالة العبرانيين التي تساعدك على مقاومة الإغواء بهجر الإيمان المسيحي؟
3. إن سألك أحد، لماذا مازلت باق على الإيمان بيسوع والإنجيل، عندما تواجه الخيارات الدينية الأخرى العديدة، ماذا ستقول؟
4. ما أهم ما تعلمته من الدرس الأول؟

- إكزامبلاهو أسلوب أدبي يوفر قوائم من الصور والأمثلة التي تتبع بعضها البعض
- هيلينستيمصطلح يُستخدم لوصف اليهودي الذي يتحدث باليونانية
- ملكي صادقملك ساليم ورئيس كهنة بارك إبراهيم واستقبل منه العشور
- آبائياتمصطلح مستخدم لدراسة كُتاب المسيحية المبكرين من نهاية العهد الجديد إلى بداية العصور الوسطى.
- قول واهوميرأسلوب أدبي يتحرك من "الخفيف إلى الثقيل"، بما أنّ المقدّمة البسيطة هي صحيحة، إذاً لا بدّ للخلاصة الأصعب من أن تكون صحيحة أيضاً.
- قمرانمنطقة أثرية بالقرب من البحر الميت. وجدت "مخطوطات البحر الميت" في كهوف هناك خلال النصف الأخير من القرن العشرين.
- بلاغةمصطلح مستخدم لوصف الأسلوب الأدبي المقنع أو الجدال المُلِح.
- سينكريزِسأسلوب أدبي وهو مقارنة مفصلة بين شيئين أو أكثر